على الهامش

نظر لي ثم قال.. "إذا كان العلماء يقولون أن الكون يتمدد يوماً بعد يوم.. فما هو الشيء الذي يتمدد الكون بداخله؟".. فكرت قليلاً ثم قلت.."ربما يكون الكون هو الشيء الوحيد الذي لا حدود له".. رفع حاجبيه في دهشة قائلاً "الشيء الوحيد!!".. عقبت سريعاً "أقصد الكون ولؤم النساء"

الأحد، 6 مارس 2011

بين السماء والأرض

ضغطت على الزر ثم وقفت أنتظر وصوله.. السادس.. الرابع.. الثاني.. أخيراً وصل الأسانسير إلى الدور الأرضي لكي يريحني من عناء مقاومة الجاذبية في سبيل الوصول إلى شقتي بالدور الثامن.. للأسف أحتاج يومياً إلى المرور على ثمانية أدوار لكي أصل إلى هدفي، وبشكل ما أقوم بذلك في حياتي متنقلا بين دور الرضيع ثم الطفل ثم التلميذ فالطالب فالمهندس فالزوج فالأب فالجد ثم المغفور له بإذن الله.

دلفت مسرعاً داخل المصعد متجنباً أن أنظر يميناً حتى لا أجد نفسي مضطراً لانتظار رفيق يشاركني رحلتي. لسبب ما أشعر براحة أكبر عندما أكون وحيداً داخل المصعد، ربما لكي أتمكن من التأمل بحرية في المرآة التي توجد بداخله.. أو ربما لكي أتجنب حواراً غالباً ينتهي بشكل مفاجئ فور أن يصدر المصعد رنينه المميز معلنا نهاية الرحلة.

ضغطت على الزر الذي أصبحت أحفظ إحداثيات موقعه عن ظهر قلب.. بدأ المصعد في التحرك بثقة مردداً "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين".. هو يرددها نيابة عن الركاب الذين لن ينتبهوا غالباً إلى المعجزة التي جعلتهم يتحركون دون أن يتحركوا.. فالمعجزة عندما تتكرر كثيرا تفقد قدرتها على إحداث التأثير المطلوب. بدأت أفكر في المعجزات التي تحدث كل يوم دون أن نشعر بها وآخرها تلك التي جعلتني أنهض من فراشي لأواجه يوماً جديداً رغم كل ما مررت به في اليوم السابق من تعب ومشقة وخداع و... وفجأة توقف المصعد قبل أن يصل إلى الدور الثاني.. انقطعت الكهرباء فتوقف كل شئ.

ساد الظلام فجأة فاختفت حدود الزمان والمكان.. بدأت أتحسس الجدار المقابل فوجدت أن المصعد لم يدرك إلا جزءاً صغيراً من باب الدور الثاني حتى أنه بالكاد يكفي للتأكد من أن الظلام قد حل على المبنى بالكامل وأن ما حدث لم يكن مجرد عطل في المصعد.

ابتسمت دون أن أشعر حين تذكرت عبارة رجل المستحيل أدهم صبري في إحدى عملياته حين قال "المصاعد لكبار السن والمسنين.. كما أنها تبدو كمصيدة مثالية فيمكن قطع التيار الكهربي عنا أو اصطيادنا بقنبلة يدوية بسيطة".. إذن فهذه أحد مزايا أن تكون رجلا عادياً وألا تكون رجلا مستحيلاً.. حيث لا يضطر الناس حينها إلى إلقاء القنابل اليدوية البسيطة عليك أو قطع الكهرباء عن المبنى الذي تتواجد بداخله.

حسناً.. لا داعي للقلق.. سأتصل بالبواب لكي يجد حلاً.. بالتأكيد لديه حل.. أخرجت تليفوني المحمول وبدأت أبحث عن الرقم ثم اكتشفت أن الشبكة بخلت عليّ بتغطية كنت في أمس الحاجة إليها.. ما زلت أرى أنه لا داعي للقلق.. هذه أحد مميزات أن تحمل أكثر من تليفون.. الشبكة الأخرى ربما تتفوق هذه المرة.. تباً.. جزيئات الحديد التي تغلف المصعد نجحت كالعادة في منع الشحنات من الدخول.. ليس هذا وقت التأمل في عبقرية نظرية جاوس الكهربية.. وإن كنت شعرت بالسعادة لأنني أعرف السبب، ولن أضطر للصراخ في أذن أحد مندوبي خدمة العملاء الذي سيشكرني بكل هدوء على اتصالي ثم ينهي المكالمة في ثقة.

بدأت أشعر بالعجز.. وما هو العجز؟.. هو ألا تجد الأدوات التي تمكنك من تحقيق هدفك.. هو ألا تجد الكهرباء التي توصلك إلى شقتك.. فكما أن قليلاً من الملح كفيل بافساد وجبة كاملة.. كذلك فإن بدون هذه التغطية يتحول الموبايل إلى قطعة من الحديد باهظة الثمن.. وبنفس المنطق بدأت أنتبه إلى احتمال أن أموت مختنقاً إذا استمر هذا الانقطاع لبضع ساعات. هكذا تكتسب الأشياء الصغيرة قيمتها التي دائماً نهملها للأسف. كنت مقتنعاً طوال حياتي أنني لن أدخل السجن إلا إذا ارتكبت جريمة ما.. وها أنا أعيش في زنزانة مزودة ببعض الأزرار.

هو بالضبط حبس انفرادي.. بعد أن صدر ضدي حكم لا أعرف سببه بالحبس لمدة لا أعرفها..أدركت وقتها لأول مرة في حياتي كم هو مؤلم شعور السجناء السياسيين الذين يقضون عقوبة لا يعرفون مدتها ولا يفهمون حتى سببها. فقد تحولت في هذه اللحظة إلى سجين سياسي أو بمعنى أدق "سجين كهربائي".

كما انتبهت أيضاً إلى أنه لا توجد خطة محكمة يستطيع أن يضعها انسان مهما بلغت قدراته.. دائماً ستكون هذه الخطة بحاجة إلى بعض التوفيق حتى تنجح، فقدراتنا وحدها لا تكفي بدون مساعدة بعض العوامل الخارجية... الآن أنا أملك العينين ولكنى لا أرى شيئاً.. أملك التليفونات لكنى معزول عن العالم.. جيبي به قدر لا بأس به من المال ولكنه بلا قيمة.

وفي قمة هذه الورطة التي بدت بلا نهاية.. بدأت أرى الجانب المشرق من التجربة وهو في الحقيقة هذه الأفكار التي استلهمتها.. حسناً إذا ما قدّر لي الخروج من هذا المصعد حياً فإن أول ما سأفعله عندما أدخل شقتي أن أكتب كل ما دار في ذهني.

ومن المهم هنا أن أشير إلى تاريخ هذه الواقعة.. كانت في 16 نوفمبر 2010 ويمكنك ملاحظة أن هذا المقال تم نشره بعدها بنحو أربعة أشهر.. وربما يعني ذلك أنني ظللت حبيس المصعد طوال تلك المدة.. أو ربما – وهذا هو الأرجح- أن ترتيب الأوليات عند الانسان وقت الشدة يختلف تماماً عن ترتيبها وقت الرخاء والاطمئنان.. جعلني ذلك أتذكر أنني كنت دائما أقول وأنا "مزنوق" في اللجنة أمام امتحان صعب.. "من بكره هذاكر بجد بقى عشان أعوض".. أو "يا رب ساعدني وإن شاء الله هبقى كويس بعد الامتحان".. بالطبع تعرفون ما الذي يحدث بعدها.

كنت فعلا وبالمعنى الحرفي للكلمة أعيش داخل المصعد معلقاً بين السماء والأرض.. ولكنى اكتشفت أنها صورة مصغرة لحياتي خارجه.. وهذا منطقي جداً فالانسان أصلاً يعيش حياته – وبالمعنى الحرفي للكلمة أيضاً.. بين السماء والأرض.



جروب الفيس بوك