على الهامش

نظر لي ثم قال.. "إذا كان العلماء يقولون أن الكون يتمدد يوماً بعد يوم.. فما هو الشيء الذي يتمدد الكون بداخله؟".. فكرت قليلاً ثم قلت.."ربما يكون الكون هو الشيء الوحيد الذي لا حدود له".. رفع حاجبيه في دهشة قائلاً "الشيء الوحيد!!".. عقبت سريعاً "أقصد الكون ولؤم النساء"

الأحد، 8 أبريل 2012

في وداع العسكرية.. خاطرة ودعاء وتحية قبل الانصراف..

يقضى الانسان عمره في حالة انتظار.. دائماً نكون في انتظار شيء ما.. شخص ما.. حدث ما.. وكنت أعيش لمدة ثلاث سنوات في انتظار هذا اليوم.. أما وقد أتت اللحظة المشهودة بعد طول انتظار.. فإن عدم توثيقها يصبح اهداراً لفرصة لا تأتي في عمر الانسان مرتين.. بالتأكيد سيكون حديثاً في شأن شخصي، قد لا يكون ممتعاً أو مهماً ولكن التجربة بها ما أراه يخرج بها من حدود الخاص إلى العام..

فلاش باك..

اتخرجت.. أخيراً جاءت اللحظة التي انتظرتها لمدة خمس سنوات أمضيتها في كلية الهندسة.. أتذكر شعورى عندما خرجت من باب الكلية في آخر يوم.. كنت – مع الفارق – كمسجون خرج لتوّه من باب السجن.. ينظر أمامه ولا ينظر خلفه إطلاقاً.. المستقبل يبدو مشرقاً والأحلام لا سقف لها، وذلك الشاب الذي يعرف الكثير ويؤمن بالكثير وينوي فعل الكثير والكثير قد أصبح جاهزاً لكتابة الفصل الأول .. استعد أيها الكوكب.. لقد حدث شيء كبير.. أنا اتخرجت..

أتذكر كيف كنت أفكر في الطريقة التي سأعيش بها حياتي.. لا يمكن أن تضع خطة لحياتك لأنك لا تعرف كل المعطيات ولا تمتلك كل الأدوات.. كما أنه في أغلب الأوقات تكون تصرفاتنا عبارة عن ردود أفعال لأشياء لا يمكن التنبؤ بها.. إذن فلن أخطط لحياتي ولكنني سأحدد على الأقل هدفي منها.. سأحدد المكان الذي أريد أن أصل إليه وأترك تحديد الطريق.. سأتخيل الصورة النهائية وأترك اختيار الألوان لاعتبارات الممكن والمقبول والمتاح.. وقد كان..

لم يكن يتبقى إلا بعض الإجراءات الروتينية للحصول على تأجيل الخدمة العسكرية.. الكل يؤكد أن تخصصي ليس مطلوباً للتجنيد فلا داعى للقلق.. مررت بكل الإجراءات المطلوبة.. ثم فجأة وفي لحظة سيريالية مدهشة توقف فيها الزمن وصمتت فيها الطيور وتوارى فيها ضوء الشمس خلف سحابة قاتمة.. وجدت أنني الوحيد من كل زملائي الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم الذي كان مقدوراً له أن يتجند  في صفوف الجيش المصري.. سنة؟ لأ.. تلاتة..

قليلة.. عميقة.. صامتة.. هكذا تكون اللحظات التي تتغير فيها حياتك.. تلك اللحظات التي تجد فيها خريطة حياتك تتحدد باعتبارات خارجة تماماً عن سيطرتك.. لحظة كتلك التي تعرف فيها اسم الكلية التي ستحدد مستقبلك المهنى والوظيفي.. أو كتلك التي قالت لك فيها أنها "موافقة تتجوزك".. لحظات تتحدد فيها ملامح العمر وليس لنا فيها إلا أن ننتظر لنرى كيف يخبرنا القدر بما هو مقدور.. وكانت لحظة التجنيد إحدى تلك اللحظات.

كنت أجلس صامتاً بعد أن انصرف زملائي.. كنت بمنتهى الصدق لا أفهم ما أشعر به باستثناء المفاجأة.. نظرت بجوارى فوجدت شاباً يبكي بحرقة.. بالتأكيد لديه أسبابه وبالتأكيد ليس من ضمنها كرهه للجهاد.. زملائي انصرفوا وهم يواسونني وبالتالي يجب أن أكون حزيناً ولكنى ما زلت أشعر بعدم الفهم.. عدت وأنا أفكر فيما جرى وسيجري فكانت الكلمة التي أسمعها طوال الوقت من كل الناس.. "هتضيع من عمرك 3 سنين".. ثم يبدأ فاصل من المواساة.

هل فعلاً سأضيع من عمرى 3 سنين؟.. كان هذا هو السؤال وكانت إجابتي في حدود فهمي وإدراكي.. لا.. أنا لا أستطيع أن أضيع شيئاً لا أتحكم فيه ولا أملك من أمره شيئاً.. مثلاً لا أستطيع أن أضيع هذا القلم قبل أن أمسكه بيدي أو أن يكون ملكاً لي.. كيف أضيع من عمرى وأنا لا أملك منه شيئاً !!.. هل كنت سأعيش 60 عاماً والآن سأعيش منها 57 فقط كمواطن حر.. أنا لا أضمن إن كنت خرجت مع من خرج من زملائي أن تصدمني سيارة فينتهي عمري حينها رغم أني لم أدخل الجيش.. ولكني اقتنعت وقتها أن عمر الانسان يضيع في كل لحظة يعيشها في معصية تبعده عن الهدف الأصلي من وجوده.. ولا يمكن أن يضيع بغير هذا.

كانت أياماً عصيبة تلك التي تسبق الرحيل.. كنت ذاهباً لمكان لا أعرفه لأقضى مدة لا أعرفها ولذلك كنت أشعر بمنتهى الحيرة وأنا أجهز حقيبة السفر.. استيقظت فجراً قبل الجميع حتى أسافر في هدوء.. استيقظت أمي لسبب ما وسمعتها تبكي وأنا أغلق باب المنزل.. كنت في حاجة إلى الإيمان بالله وبقضائه حتى أهون الأمر فأنا لست الأول ولن أكون الأخير..

ومرت الأيام والسنون.. تعلمت فيها أشياء لا يستطيع انسان أن يتعلمها في مكان آخر.. لا أدعى بطولة من أي نوع لأني كنت مجبراً بطريقة أو بأخرى على أن أكون في هذا المكان.. ولكن ما أستحق أن أفخر به أنني لم أكن مجبراً على كل شيء فعلته طوال تلك المدة.. كنت قد قررت أن أستغل الفرصة السحرية التي تجد فيها الظروف تجبرك على فعل شيء عظيم.. كما كان الصول يقول لنا في الأيام الأولى "إن جالك الغصب.. إعمله بمزاج".. هل هناك ما هو أفضل؟

 قمت بأشياء جيدة طوال تلك الفترة.. لم يكن ذلك طمعاً في مكافأة فذلك أصلاً غير وارد.. ولكنه كان بحثاً عن شعور بالرضا عن الذات يساوي الكثير لمن يعرفه.. وكان أملاً في أن يكون ذلك سبباً في خير قد تحمله لي الأيام في المستقبل.. أفكر أحياناً أنني من جيل الثورة الذي شاهد الدبابات تسير في جامعة الدول وشارع الهرم ويحتفظ كل شاب فيه بصورة مع الدبابة.. أحاول أن أتخيل لو سألني أولادي مثلاً "إنت نزلت مع الناس يوم جمعة الغضب؟".. أو "إنت ليه مش متصور مع الدبابة؟".. لا أعرف بالتأكيد كيف تكون الإجابة.. أنا أصلاً لا أعرف هل كنت سأملك الشجاعة للنزول أم لا لو كنت من المدنيين.. وربما كان وجودي في الزي العسكري يومها هو ما منحنى فرصة أن أكون جزءاً من هذا المشهد التاريخي العظيم..

كنت كغيري أترقب اليوم الذي تنتهي فيه مدة الخدمة.. ولكنه عندما جاء لم أشعر أبداً بالبهجة أو السعادة بالشكل الذي كنت أتخيله.. تعلمت من هذا أن الفرحة الحقيقية لا تأتي إلا بعد إنجاز يجتهد الانسان لتحقيقه.. أما مرور الأيام فإنه سنة كونية ليس لنا فيها دور وبالتالي لا يوجد مبرر للسعادة بشيء كان حدوثه مسألة وقت.. طال أو قصر.. هو مجرد وقت..

اللهم تقبل..