على الهامش

نظر لي ثم قال.. "إذا كان العلماء يقولون أن الكون يتمدد يوماً بعد يوم.. فما هو الشيء الذي يتمدد الكون بداخله؟".. فكرت قليلاً ثم قلت.."ربما يكون الكون هو الشيء الوحيد الذي لا حدود له".. رفع حاجبيه في دهشة قائلاً "الشيء الوحيد!!".. عقبت سريعاً "أقصد الكون ولؤم النساء"

الثلاثاء، 8 فبراير 2011

قصة الجيل الذي غضب.. حتى تفرح مصر..

تبدو فكرة الكتابة عن حدث بعينه ليست الأفضل مقارنة بالكتابة عن فكرة.. فالمقال الذي يناقش حدثاً يكون محكوماً بفترة صلاحية تنتهي بنهايته.. ولكن لأن ثورة 25 يناير كانت حدثاً استثنائياً بكل المقاييس، فقد تجاوزت بلا شك كل حدود الزمان.. وأصبح الحدث في حد ذاته رمزاً لجيل كامل من شباب مصر.

كلنا تابعنا تسلسل الأحداث التي تطورت بسرعة كبيرة.. لدرجة أننا ربما لم نجد الوقت الكافي لكي نستوعب لماذا قام الشباب بكل هذا؟.. الدوافع قد تبدو بديهية ممثلة في الفقر والفساد والبطالة وغيرها.. ولكن كل هذه المشكلات كانت تعيش معنا ومع آبائنا وأجدادنا.. إذن لماذا ثار هذا الجيل تحديدا وقام بما عجز عنه الآباء والأجداد وأبهر العالم من أقصاه إلى أدناه؟

دعونا نتذكر كيف كانت البداية..

****************

تعلمنا في المدارس منذ أن كنا أطفالاً أن المصريين هم أحفاد الفراعنة الذين أضاؤوا العالم علماً وحضارة منذ فجر التاريخ.. كنا نحفظ عن ظهر قلب أن قدماء المصريين هم أول من قام بكل شيء وأي شيء.. هم أول من اكتشف الزراعة واخترع الورق والكتابة ودرس الفلك والجغرافيا وأقام أول معاهدة سلام وكوّن أول جيش نظامي وأول من اخترع العجلات الحربية والآلات الزراعية والألعاب الرياضية.. باختصار تعلمنا وفهمنا بما لا يدع مجالاً للشك أننا كنا القادة والسادة في العالم القديم.

كما تعلمنا أيضاً أن مصر كانت دائماً قوية.. هي التي طردت الصليبيين وأوقفت التتار.. وهي الدولة العربية الوحيدة التي هزمت إسرائيل.. وتعلمنا كذلك أن مصر كانت دائماً غنية.. ولذلك فهي مطمع المستعمرين والغزاة على مر العصور.. ولكنها كانت دائماً قادرة على الصمود في وجه الأعداء.

ثم كبرنا وبدأنا نستكشف الواقع الذي وجدنا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون امتداداً لذلك الماضي المشرف.. وكانت المسافة بعيدة جداً حتى أننا شعرنا أن ثمة خطأ ما حدث في مرحلة لم يخبرنا بها أحد.. ولم نفهم أشياء كثيرة.. لم نفهم كيف نحصل على "صفر" عندما نطلب تنظيم كأس العالم رغم أننا أصحاب أقدم الحضارات في أفريقيا.. لم نفهم كيف تقف مصر التي قادت معارك العرب ضد إسرائيل تشاهد المذابح وهي ترتكب في غزة ولبنان دون حتى أن تشجب أو تدين؟.. وشاهدنا دولا صغيرة تصنع المعجزات حتى تخلينا عن شعار "مصر الريادة".. إلى أن أصبح – رغماً عنا- "الريادة للجميع".

ولأن الواقع ظهر قاتماً فقد فضلت نسبة كبيرة من الشباب أن تتجنبه.. وللهروب من الواقع كان أمام الشباب ثلاثة طرق.. المخدرات (وقد انتشرت حتى أن البعض أصبح لا يعتبر البانجو مادة مخدرة).. الانترنت (والدخول في حياة افتراضية كبديل عن الواقع السيء).. والعلاقات مع النوع الآخر (ابتداء من المصاحبة وانتهاء بالزواج العرفي).. ولم تخل حياة معظم الشباب من أي مما سبق ولو بدرجات متفاوتة.

********************

ومرت الأيام والسنون.. وحلم الدولة العظمى ظل يعيش قي مكان ما من قلوبنا.. ولكن الواقع المحبط كان يضغط على كل لمحة تفاؤل.. وكانت لبعض الظواهر آثار شديدة جعلتنا نشعر أننا مهزومون من داخلنا ومن خارجنا.. أحد هذه الظواهر ما تكرر كثيراً من حوادث التحرش الجماعي في الشوارع جهاراً نهاراً.. وكنا نسمعهم يقولون "ها هم الشباب الذين سيقودوا البلد يوما ما".. وكانت مشاهد تؤكد الجهل واليأس الذي نعيش فيه.. ومن خارجنا كانت ضغوط الفقر والفساد والبطالة تصنع سداً منيعاً أمام حلم كل شاب بتكوين أسرة أو ببدء حياة كريمة.. فكان منطقياً جداً أن يحلم الجميع بالخروج من هذا البلد بأي شكل.. سفر.. هجرة شرعية أو غير شرعية.. المهم أن نترك هذه المشكلات لمن يريد أن يحلها أو لمن يستطيع أن يعيش معها.

ثم بدأ شيء ما يتغير.. وبدأ الشباب يخرج عن سيطرة الدولة شيئاً فشيئاً.. الإعلام كان له الدور الأكبر في هذه المرحلة.. وأبسط مثال على ذلك أن برنامجاً شهيراً في التليفزيون الحكومي كان يسمى "اخترنا لك".. أي أن الدولة هي التي تختار وأنت عليك أن تشاهد دون اعتراض.. تطور الأمر حتى بدأنا نسمع عن قنوات أغاني تتصل بها لتطلب الأغنية التي تريد أن تشاهدها.. قد يبدو الموضوع تافهاً ولكنه كان تحولاً جوهرياً منحنا فرصة أن نختار ما نشاهده لأول مرة في التاريخ.

وللأسف انتشر الإسفاف بشكل فاق كل الحدود.. وانتشر العري على الشاشات.. وسادت لغة البذاءة التي أصبحت مفرداتها منتشرة في كل شارع في مصر.. ولم تخرج اهتمامات الشباب من الحديث عن المطربين أو الممثلين أو لاعبي الكرة.. وخرج الشباب عن المألوف في لغتهم وملابسهم وأفكارهم.. حتى أن النشاط الروتيني الوحيد في حياة معظم شباب الجيل كان هو "خروجة يوم الخميس".. التي كان الجميع يحافظ عليها دون سبب واضح.. والملفت أن كل من كان قادراً على توجيه نصيحة أو إبداء رأي يستمع له الشباب.. كان واحداً منهم.. وكل من كانوا يتخذوه قدوة لهم كان أيضا في نفس عمرهم.. وفقدنا كل الاتصال مع من هم أكبر سناً وأكثر خبرة.. والمؤسف أن أحداً لم يهتم.

*******************

ولأن قوانين الطبيعة علمتنا أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه..فقد كان هذا الإسفاف هو الدافع الرئيسي لظهور شباب ببساطة لا يقبلون بهذه المهزلة التي تحدث ليلاً نهاراً أمام عيونهم.. وكما كان الانحدار شديداً كان الوعي بخطورته كبيراً.

يوماً بعد يوم بدأت تظهر بعد الظواهر التي كنا نعتقد باستحالة حدوثها.. وكان صديقي فتحي الذي لم أتخيل يوماً أنه من الممكن أن يقرأ شيئاً بخلاف ورقة الامتحان أكبر دليل شاهدته على ذلك.. كان فتحي يجلس في المحاضرة وهو يقرأ خلسة كتاب "كابتن مصر" ويبدو مستمتعاً بشدة.. كيف حدث هذا؟ هل من الممكن أن يمسك شاب بكتاب؟ والأكثر من ذلك أن يقرأه.. وكانت الإجابة "نعم".

كانت الكتابات الرائعة لعمر طاهر وبلال فضل وأحمد خالد توفيق وغيرهم سبباً رئيسياً في جذب الشباب مرة أخرى لشيء يخاطب عقلهم ولا يخاطب غريزتهم.. وبالتوازي ظهرت الصحف المستقلة التي كانت في الواقع معارضة بشدة.. كانت تكشف للشباب عن الواقع المظلم الذي نعيشه والمستقبل الأسود الذي ينتظرنا.. من المهم أن نؤكد على الضمير في كلمة "ينتظرنا" لأنه يعني أننا كلنا.. بلا استثناء.. نجلس معا في هذه السفينة المثقوبة وعلينا أن نفعل أي شيء إلا أن نتفرج عليها وهي تغرق وتغرقنا معها.

وبدأ الوعي ينتشر.. وبدأ الإدراك يفرض على الجميع واقعاً جديداً لم تفلح معه كل محاولات التغييب.. ما زلنا نذكر أننا أحفاد الفراعنة وأننا أصحاب الريادة، وأننا قبل كل ذلك بشر نستحق حياة تليق ببني آدم.. ومع كل هذا الضغط من الأخبار السيئة التي تحيط بنا كان الانفجار عنيفاً ممثلاً في فرحة مبالغ فيها ببطولات أفريقيا التي فزنا بها.. هذه البطولات ربما كانت مجرد مباريات فزنا بها.. ولكن كان بها من الدلالات الكثير جداً.

كان الحماس في التشجيع يؤكد أن هؤلاء الشباب بالفعل يحبون بلدهم حباً فطرياً مجرداً لا تشوبه شائبة.. هم أكثر الأجيال تعرضاً للظلم فهم خرجوا إلى الدنيا بلا مشروع أو هدف يوحد طاقاتهم.. أجدادنا خرجوا على واقع ثورة حررت بلادهم من استعمار دام سبعين عاماً.. ثم وحدهم هدف عظيم هو بناء السد العالي دون مساعدة من أحد.. آباؤنا خرجوا ليحاربوا ويستشهدوا دفاعاً عن أرض احتلت.. وكرامة أهدرت.. وفرحوا بنصر حققوه بسواعدهم وكتبوه بحروف من نور.. كانوا على الأقل يسمعون كلمة "مصر" في كل يوم وكل لحظة.. نحن لم تطلب منا البلد شيئاً.. تركتنا فتركناها.. بل ربما شعرنا أحياناً أنها تطردنا أو أنها ضاقت بنا ومن تكاثرنا على أرضها.. ولذلك حين طلبتنا لتشجيع منتخب يحمل اسمها كانت التلبية أكبر من أي مانع.. وكان صوت الشباب هادراً يحرك الحجر..وكانت فرحة الفوز بالبطولة فرحة جيل يبحث عن نصر، ويريد أن يثبت للجميع أنه يستطيع إذا أراد.

كما أن ستاد القاهرة كان هو المكان الوحيد الذي نجح في تجميع مائة ألف شاب مصري يحبون بلدهم.. وكان هو المكان الذي مكنهم من أن يهتفوا باسمها.. وكان كذلك المكان الوحيد الذي سمح لهم بحمل علمها ورسمه على القلوب قبل الوجوه.. بعضهم لم يكن يعرف أسماء اللاعبين أو قوانين اللعبة.. فقط كانوا يعرفون اسم بلدهم ويحفظون جيداً القانون الفطري الوحيد الذي فرض عليهم أن يحبوها.

وكان منطقياً أن يزيد الوعي أكثر وأكثر.. وبدأ الشباب يسقطون النجوم الزائفة وكانت السينما بالفعل هي مرآة المجتمع الصادقة.. فقد بدأ نجوم الكوميديا التافهة يتخبطون بحثاً عن أسباب ترك الجمهور لهم مقابل أفلام أكثر كآبة تتحدث عن الفساد والعشوائيات والظلم والقهر.. ولم يستطيعوا أن يفهموا أن الجمهور لم يعد "عايز كده" ولكنه أصبح يعاني بالفعل ويريد أن يرى ما يعبر عما بداخله.

*******************

وكانت كلها تراكمات تتزايد عاماً بعد عام تنتظر من يفجرها.. حتى جاء العملاق الذي غير حياة الجيل ومنحهم ما ظلوا عمرهم كله يحلمون به.. كان هذا العملاق هو الفيسبوك.. وقد منحهم مساحة يتحدثون فيها لأول مرة بعد أن ظلوا سنيناً يسمعون.. يشاهدون.. يتفرجون.. يقرؤون.. الآن أصبح بإمكانهم أن يكتبوا دون صحيفة أو مطبعة أو موافقة أمنية.. أن يصوروا الواقع كما هو ليشاهده الملايين.. أن يتجمعوا في مكان يتجاوز بكثير حدود ستاد القاهرة.

وانطلق المدونون الجدد يكتبون بلا قيود معبرين عن فكر هذا الجيل.. وظهر نجوم جدد جسدوا حالة الاستقطاب الذي قسم الشباب بين الضياع التام والوعي الكامل.. فكما ازدادت نجومية المطربين والممثلين وأمثالهم.. ظهر على الساحة أيضاً نجوم فرضوا أنفسهم بموهبتهم وصدقهم ورغبتهم في صناعة واقع أفضل.. وكان الشباب يتبادلون قصائد هشام الجخ وأغنيات حمزة نمرة وهم يحلمون بأن يحققوا شيئاً يمكنهم من الحياة في مكان أفضل.. ولم يعد من الممكن أن يخدع أحد هؤلاء الشباب الذي تجاوز مرحلة المعارضة السياسية لحكومة إلى المعارضة الكاملة لواقع مهين وحياة مظلمة بكل أبعادها وأركانها.. وكانت التعليقات على كل تصريح حكومي ينشر على الإنترنت تنذر بأن الكبت وصل إلى منتهاه.. وللأسف مرة أخرى لم يهتم أحد.

ثم حدث ما حدث في تونس.. وانبهر العالم بهذه الثورة التي أطاحت بأركان الحكم دون زعيم أو تنظيم.. ومرة أخرى استرجع الشباب ما تعلموه عن أن مصر كانت دائماً صاحبة الريادة.. هي التي قادت وساندت ثورات التحرر في العالم العربي.. وربما كانت الغيرة أحد الدوافع لتشجيع الشباب للقيام بعمل مماثل.. ولكن الغيرة وحدها لا تكفي للقيام بتلك المعجزات.. وبدا الحلم قريباً جداً هذه المرة بصورة أسكتت كل المحبطين بعد أن رؤوه يتحول إلى واقع في تونس.

واعتقادي الشخصي أن من نزل إلى الشارع يوم 25 يناير لم يكن يعرف مسبقاً أنه سيطالب باسقاط النظام.. كانوا جميعاً بلا شك يحلمون بواقع مختلف.. لم يكونوا كلهم جياعاً أو عاطلين أو محرومين.. ولكنهم كانوا حالمين بوطن آن له أن يسترد كرامته. كانوا يحلمون بيوم يبدأ بقراءة جريدة صادقة تحمل أخباراً جيدة.. وكانوا صادقين في حبهم لبلدهم وفي استعدادهم للتضحية من أجله ربما لأول مرة.

ومرة أخرى كان صوت الجماهير هادراً وهي تهتف من أجل مصر.. واندفع الشباب يصنعون بأنفسهم مشروعهم ويكتبون تاريخهم بدمائهم.. وانتقلوا من خانة رد الفعل إلى خانة الفعل.. حتى وصفهم الأستاذ هيكل بأنهم أجمل وأنبل من أنجبت مصر في تاريخها.

وكان الاندفاع شديداً.. مدفوعاً بضغوط سنين طويلة ومهرولاً نحو حلم أصبح على بعد خطوات.. وكانت كلمات وائل غنيم أصدق تعبير عن جيل اكتشف الجميع فجأة أنه يحب مصر أكثر مما يتخيل أكثر المتفائلين.. وكانت دموعه دليلاً على رغبة صادقة لجيل كامل في أن يمنحوا وطنهم وطناً أفضل.. وكان المشهد في الشارع لا يحتاج إلى تحليل أو وصف أو تفسير...

لقد أسقط الشباب كل الأقنعة وحطموا كل الأصنام في يوم الغضب وفاجؤوا أنفسهم قبل غيرهم بهذا الصدق وهذه العزيمة.. أما ما أعقبه من أيام فسيبقى التاريخ وحده هو القادر على الحكم على ما جرى فيها.

ولم يكن 25 يناير هو نهاية قصة الجيل الذي غضب.. ولكنه كان البداية لقصة لن تنتهي إلا عندما تفرح مصر بأبنائها وبحاضرها وبمستقبلها.. تلك القصة التي سيكتبها تاريخ مصر بحروف من نور لأبطال هم بالفعل أجمل وأنبل وأصدق وأروع من أنجبت على مر العصور.